القائمة الرئيسية

الصفحات

لماذا أنت منفعل؟ ….. بلال فضل


عندك حق، المسألة كلها لا تستحق الانفعال، يجب أن ننسى الماضى ولا نفكر فى القصاص لأن لدينا ما هو أهم بكثير، نعم يا افندم؟ تريدنا أن نسمو ونتعالى ونبعث بباقات ورود إلى حسنى مبارك فى شرم الشيخ لنقول له آسفين يا ريس، وننسى رغبتنا فى محاكمته هو وأفراد أسرته على مسؤوليتهم السياسية فى قتل المصريين وتعذيبهم وترويعهم، تريدنا أن نتسامح مع كل من كان جزءاً من نظام مبارك وظل يدافع عنه حتى آخر لحظة وينفذ سياساته ويسكت على جرائمه وينافقه ويوالس عليه ويطعن فى كرامة المعارضين له ووطنيتهم؟ فعلا عندك حق، المسامح كريم ولازم نبص لقدام وننسى الماضى، والله كلامك حكيم ونبرة صوتك الهادئة تبعث فى نفسى الطمأنينة، وأنا آسف أننى أصبحت أنفعل كلما سألتنى «هو إنت ليه منفعل؟».
**
لن أطلب منك أن تكون منفعلاً أبداً، فبالتأكيد ليس لديك ابن فى عمر الزهور ضربته رصاصة غادرة فى رأسه فتناثر مخه على الرصيف لمجرد أنه خرج فى مظاهرة سلمية تطالب بغد أفضل لبلاده، أظن أنك لا تملك أخاً دهسته سيارة مصفحة فأصبح مشلولاً يرقد بين الحياة والموت، وما شاء الله أرى عينيك سليمتين ولم تطيرا بفعل رصاصة مطاطية وجهها لك ضابط تلقى أوامر بأن يضرب فى المليان، لا أظن أنك كدت تختنق بفعل القنابل المسيلة للدموع منتهية الصلاحية، أو أن شظية أو رصاصة استقرت فى رجلك، أو أنك ستحمل على جلدك إلى الأبد آثار جرح نلته وأنت تدافع عن رغبتك فى أن تكون بنى آدم، لا أظنهم سحلوك على الأسفلت وضربوك على قفاك وانهالوا عليك بالهراوات والعصىّ الكهربائية لأنك هتفت أنك تريد إسقاط نظام نشر الفساد وأذل العباد ومرمط البلاد.
ما أوضح منطقك يا سيدى عندما تقول لى ببساطة: «إذا كنت لم أر كل هذا ولم أشهده ولم أعشه ومادام بعيداً عن بيتى وأسرتى ودارى فلماذا أنفعل؟ لماذا أخرج لكى أطالب بمصر جديدة ومختلفة تعيش قطيعة كاملة مع الماضى الذى كان يحدث فيها، كل هذا لغيرى، أنا رجل عشت فى عهد مبارك أحسن عيشة، كنت آمناً معافى قادراً على تلبية كل احتياجاتى وتأمين مستقبل أولادى، أنا لم أر من هذا الرجل حاجة وحشة فلماذا تنفعل عندما أسألك: وهو مبارك عمل لكو إيه؟ وليه ماصبرتوش على شفيق؟ وإيه اللى مخليكو قارفيّنا كل شوية بمطالبكو؟ وهى مطالبكو دى مش هتخلص أساساً؟».
**
لماذا أتجاوز فى حقك وأطلب منك أن تنفعل؟، هل لديك بنت أو أخت أو زوجة تم انتهاك عرضها فى مقر من مقرات أمن الدولة؟ هل علّقوك على الشواية كأنك كلب ضال؟ هل عصبوا عينيك و«كلبشوك خلفى» ثم رموك فى زنزانة انقطعت فيها عن العالم حتى كدت تفقد عقلك؟ هل وضعوا عصا فى مؤخرتك وجعلوك تصرخ طلباً للرحمة؟ هل قاموا بتعريتك من ملابسك وأخذوا يسبون لك الدين ويشتمون أمك بأحط الألفاظ؟ هل ظللت محتجزا فى سجن سرى فى مقر من مقرات أمن الدولة فى نفس الوقت الذى يقسم فيه رئيس الوزراء ووزير الداخلية أن مصر لا يوجد فيها معتقلون سياسيون؟ هل تعرضت للتنصت على هاتفك وانتهاك خصوصياتك؟ هل حاربوك فى رزقك وحرموك من حقك لأنك لم تكن عبداً لهم؟ هل شعرت بالقهر وأنت ترى من هو أحط منك قدرا وأقل كفاءة وهو يحصل على مكانة كنت تستحقها لمجرد أنه مخبر أو واطى أو لحَّاس أعتاب؟ هل شعرت بالإهانة وأنت ترى حرامى آثار أو تاجر مخدرات أو لص أراض يمثلك فى البرلمان لمجرد أنه واصل ومسنود من فوق؟
**
هل غرق عزيز عليك فى عَبّارة متهالكة مسنودة من فوق، أو احترق لك صديق فى مسرح ضيق أو قطار حقير أو شَحَت قريب لك لكى يتعالج؟ هل حرموك يوماً من وظيفة تستحقها لأنك غير لائق اجتماعياً أو لأن قريباً لك من الدرجة الرابعة لديه انتماء معارض؟ هل أهينت كرامتك وأنت ترى رئيس بلدك يفخر بصداقة الإسرائيليين بينما يسحل أبناء وطنه فى السجون والشوارع؟ هل غرق لك أقارب فقراء فى البحر وهم يحاولون الهروب من بلاد يُكَدِّس حاكمها المليارات هو وأسرته وأصدقاؤه؟ هل شعرت بالقهر وأنت ترى حقك فى العدالة يذهب لغيرك بمكالمة تليفون؟ هل اقتحموا بيتك فى الفجر ليأخذوك من وسط أولادك فيما زوجتك تحاول أن تستر نفسها وتهدئ أطفالك؟ هل كادت عينا أمك تعميان من البكاء لأنها فقط تريد أن تراك قبل أن تموت؟ هل تمنى أهلك الموت كل يوم لكى يرتاحوا من عذاب عدم معرفتهم هل أنت حى أم ميت؟ هل مات طفلك بين يديك لأنه لم يجد علاجا آدميا فى مستشفى حكومى؟
**
نعم، أنا أنفعل لأننى رأيت كل هذا وعرفته وشاهدت ضحاياه بأم عينىّ، أنفعل حتى لو لم يحدث لى مباشرة، فأنا أؤمن بأن الله سيحاسبنى إذا سكتُّ على الظلم والفساد والتعذيب والقمع والتزوير، وإذا لم أختر من اليوم فصاعدا لرئاسة بلادى ومجالسها النيابية والمحلية شخصا لم يتلوث بفساد أو ظلم أو تزوير أو تواطؤ مع الماضى المباركى، صدقنى أنا رجل واقعى على عكس ما قد تظن، ولذلك أؤمن بأن الحياة سلف ودين، وأننى ذات يوم سأدفع الثمن غاليا إذا تخيلت أن أمنى الشخصى أهم من حرية الوطن، أو تصورت أن مصلحتى أبدى من مصلحة المستضعفين والمقموعين، عندها قد أموت فى تفجير داخل مول يقوم به شاب تعرض لهتك عرضه فى مقر أمنى وخرج يائساً من كل شىء، ربما تُغتصب قريبة لى على أيدى أوغاد انشغل عنهم ضابط شرطة مشغول بجمع الإتاوات وتأمين الكبار، سيتعرض بيتى للنهب والسرقة بفعل ثورة الجياع، سيُصاب ابنى بمرض عضال بسبب تلوث كل شىء يأكله ويشربه ويتنفسه بفعل الفساد والإهمال، ستتعرض حريتى الشخصية للترويع على أيدى المتطرفين الذين أنتجهم نظام تعليمى فاشل وثقافة مشوشة، سينفجر وطنى بفعل فتنة طائفية يذكيها نظام فاسد يستغلها لإلهاء الشعب عن فساده، سيدمن ابنى المخدرات لأن المسؤول عن مكافحتها ليس حريصاً على أداء واجبه لأن بقاءه فى منصبه ليس متوقفاً على صوتى الانتخابى بل على رضا مسؤوليه عنه، باختصار هناك ألف طريقة للبلاء ستصيبنى إذا لم أدرك أننى يجب أن أكون منفعلا من أجل أن تعيش بلادى قطيعة كاملة مع الماضى المباركى اللعين.
**
هل فهمت الآن لماذا أريدك أن تنفعل؟ هل فهمت لماذا يحبطنى دفاعك عن شخص ونسيانك لآلام شعب بأكمله؟، هل فهمت لماذا أنفعل عندما أراك رخواً ليناً وأنا أُذكّرك بدماء الشهداء والجرحى وآلام المسجونين ولوعة أهالى المفقودين وحرقة قلوب المظلومين؟ أنا والله لا أريدك أن تنفعل من أجل كل هؤلاء، بل من أجل ألا تعيش يوماً ما مصيرهم؟.
**
الآن يتملكنى أمل أنك بعد أن شاهدت كيف تتنزل عدالة السماء على الظلمة والفاسدين وأعوانهم، وقريباً على الذين سكتوا على ما كان حولهم من ظلم وفساد وطغيان ـ ربما بعد كل ذلك تفكر ملياً فى حالك ومواقفك فتدرك أن السكوت عار، والصمت تواطؤ، وتمشية الحال خيانة، وتقتنع أن الانفعال واجب وطنى لن نبنى بلدنا بغيره، وأن بناء البلاد لا يعنى أبدا التوقف عن هدم ماضيها المخزى، وأن التفكير فى المستقبل لا يعنى التسامح مع جرائم الماضى، وأننا إذا كنا ندعم حكومة عصام شرف ونجدد ثقتنا فى الجيش فإننا نفعل ذلك لأننا ننتظر تنفيذ تعهداتهم بالاستجابة لمطالبنا بسرعة القصاص لدماء الشهداء ومواصلة محاكمات الفاسدين والإسراع فى استرداد ثروات مصر المنهوبة والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وأننا لن نشهد مستقبلا مشرقا أبدا بغير كل ذلك، لأن الله لا يرضى لعباده الظلم.

من حقك ألا تنفعل، لكننى سأظل منفعلا حتى أرى مصر وقد طالت أيدى العدالة فيها مبارك وأسرته وأذنابه، سأظل منفعلا حتى تنعم مصر برئيس منتخب مقيَّد السلطات، ودستور عصرى ومجالس نيابية غير مزوّرة وقضاء مستقل، وإعلام حر، وأمن يستمد هيبته من القانون لا من شخطة الضابط، وتعليم ديمقراطى، وتأمين صحى للجميع، عندها فقط سأُعَلِّق انفعالى مؤقتا، وسأستعير هدوءك المستفز لأسأل أول منفعل أقابله: «أنا نفسى أفهم إنت منفعل ليه؟»
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع